فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال البغوي:

قال أبو سعيد رضي الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان».
عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليوشِكَنَّ الله أن يبعث عليكم عذابًا من عنده ثم لتدْعُنّه فلا يستجاب لكم».
عن قيس بن أبي حازم، قال: سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقول: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعذابه».
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المداهن في حدود الله تعالى والواقع فيها، كمثل قوم اسْتَهَمُوا على سفينة فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذين في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا به فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه فقالوا: مالك؟ فقال تأذيتم بي ولابد لي من الماء فإن أخذوا على يديه أنْجوه ونَجَّوا أنفسهم وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم». اهـ. بتصرف يسير.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وأولئك هُمُ المفلحون}:

.قال الفخر:

منهم من تمسك بهذه الآية في أن الفاسق ليس له أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال لأن هذه الآية تدل على أن الأمر بالمعروف والناهي عن المنكر من المفلحين، والفاسق ليس من المفلحين، فوجب أن يكون الأمر بالمعروف ليس بفاسق، وأجيب عنه بأن هذا ورد على سبيل الغالب فإن الظاهر أن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر لم يشرع فيه إلا بعد صلاح أحوال نفسه، لأن العاقل يقدم مهم نفسه على مهم الغير، ثم إنهم أكدوا هذا بقوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُم} [التوبة: 44] قوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3] ولأنه لو جاز ذلك لجاز لمن يزني بامرأة أن يأمرها بالمعروف في أنها لم كشفت وجهها؟ ومعلوم أن ذلك في غاية القبح، والعلماء قالوا: الفاسق له أن يأمر بالمعروف لأنه وجب عليه ترك ذلك المنكر ووجب عليه النهي عن ذلك المنكر، فبأن ترك أحد الواجبين لا يلزمه ترك الواجب الآخر، وعن السلف: مروا بالخير وإن لم تفعلوا، وعن الحسن أنه سمع مطرف بن عبد الله يقول: لا أقول ما لا أفعل، فقال: وأينا يفعل ما يقول؟ ودَّ الشيطان لو ظفر بهذه الكلمة منكم فلا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى عن المنكر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} معطوفة على صفات أمة وهي التي تضمنتها جمل {يَدْعُونَ إِلَى الخيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} والتقدير: وهم مفلحون: لأن الفلاح لما كان مسببا على تلك الصفات الثلاث جعل بمنزلة صفة لهم، ويجوز جعل جملة {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} حالا من أمة، والواو للحال.
والمقصود بشارتهم بالفلاح الكامل إن فعلوا ذلك.
وكان مقتضى الظاهر فصل هذه الجملة عما قبلها بدون عطف، مثل فصل جملة {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] لكن هذه عطفت أو جاءت حالا لأن مضمونها جزاء عن الجمل التي قبلها، فهي أجدر بأن تلحق بها.
ومفاد هذه الجملة قصر صفة الفلاح عليهم، فهو أما قصر إضافي بالنسبة لمن لم يقم بذلك مع المقدرة عليه، وأما قصر أريد به المبالغة لعدم الاعتداد في هذا المقام بفلاح غيرهم، وهو معنى قصد الدلالة على معنى الكمال. اهـ.

.قال الفخر:

عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر كان خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه» وعن علي رضي الله عنه: أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال أيضا: من لم يعرف بقلبه معروفًا ولم ينكر منكرًا نكس وجعل أعلاه أسفله، وروى الحسن عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: يا أيها الناس ائتمروا بالمعروف وانتهوا عن المنكر تعيشوا بخير، وعن الثوري: إذا كان الرجل محببًا في جيرانه محمودًا عند إخوانه فاعلم أنه مداهن. اهـ.
وقال الفخر:
قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فقاتلوا التي تَبْغِى حتى تَفِئ إلى أَمْرِ الله} [الحجرات: 9] قدم الإصلاح على القتال، وهذا يقتضي أن يبدأ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأرفق مترقيًا إلى الأغلظ فالأغلظ، وكذا قوله تعالى: {واهجروهن في المضاجع واضربوهن} [النساء: 34] يدل على ما ذكرناه، ثم إذا لم يتم الأمر بالتغليظ والتشديد وجب عليه القهر باليد، فإن عجز فباللسان، فإن عجز فبالقلب، وأحوال الناس مختلفة في هذا الباب. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري:

هذه إشارة إلى أقوامٍ قاموا بالله لله، لا تأخذهم لومة لائم، ولا تقطعهم عن الله استنامة إلى علة، وقفوا جملتهم على دلالات أمره، وقصَرُوا أنفاسَهم واستغرقوا أعمارَهم على تحصيل رضاه، عملوا لله، ونصحوا الدين لله، ودَعَوْا خَلْقَ الله إلى الله، فَرَبِحَتْ تجارتُهم، وما خَسِرتْ صفقتهم. اهـ.

.من فوائد ابن عطية:

قال رحمه الله:
قرأ الحسن والزهري وأبو عبد الرحمن وعيسى بن عمر وأبو حيوة: {ولِتكن} بكسر اللام على الأصل، إذ أصلها الكسر، وكذلك قرؤوا لام الأمر في جميع القرآن، قال الضحاك والطبري وغيرهما: أمر المؤمنون أن تكون منهم جماعة بهذه الصفة، فهم خاصة أصحاب الرسول، وهم خاصة الرواة.
قال القاضي: فعلى هذا القول من للتبعيض، وأمر الله الأمة بأن يكون منها علماء يفعلون هذه الأفاعيل على وجوهها ويحفظون قوانينها على الكمال، ويكون سائر الأمة متبعين لأولئك، إذ هذه الأفعال لا تكون إلا بعلم واسع، وقد علم تعالى أن الكل لا يكون عالمًا، وذهب الزجّاج وغير واحد من المفسرين، إلى أن المعنى: ولتكونوا كلكم أمة يدعون، ومن لبيان الجنس قال: ومثله من كتاب الله، {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} [الحج: 30] ومثله من الشعر قول القائل: [البسيط]
أَخُوا رَغَائِبَ يُعْطِيها وَيسْأَلُها ** يأبى الظُّلامةَ مِنْهُ النُّوفَل الزّفرُ

قال القاضي: وهذه الآية على هذا التأويل إنما هي عندي بمنزلة قولك: ليكن منك رجل صالح، ففيها المعنى الذي يسميه النحويون، التجريد، وانظر أن المعنى الذي هو ابتداء الغاية يدخلها، وكذلك يدخل قوله تعالى: {من الأوثان} ذاتها ولا تجده يدخل قول الشاعر: منه النوفل الزفر، ولا تجده يدخل في من التي هي صريح بيان الجنس، كقولك ثوب من خز، وخاتم من فضة، بل هذه يعارضها معنى التبعيض، ومعنى الآية على هذا التأويل: أمر الأمة بأن يكونوا يدعون جميع العالم إلى الخير، الكفار إلى الإسلام، والعصاة إلى الطاعة، ويكون كل واحد من هذه الأمور على منزلته من العلم والقدرة، قال أهل العلم: وفرض الله بهذه الآية، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من فروض الكفاية إذا قام به قائم سقط عن الغير، وللزوم الأمر بالمعروف شروط، منها أن يكون بمعروف لا بتخرق، فقد قال صلى الله عليه وسلم: من كان آمرًا بمعروف، فليكن أمره ذلك بمعروف، ومنها أن لا يخاف الأمر أذى يصيبه، فإن فعل مع ذلك فهو أعظم لأجره، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
قال القاضي: والناس في تغيير المنكر والأمر بالمعروف على مراتب، ففرض العلماء فيه تنبيه الحكام والولاة، وحملهم على جادة العلم، وفرض الولاة تغييره بقوتهم وسلطانهم، ولهم هي اليد، وفرض سائر الناس رفعه إلى الحكام والولاة بعد النهي عنه قولًا، وهذا في المنكر الذي له دوام، وأما إن رأى أحد نازلة بديهة من المنكر، كالسلب والزنى ونحوه، فيغيرها بنفسه بحسب الحال والقدرة، ويحسن لكل مؤمن أن يحتمل في تغيير المنكر، وإن ناله بعض الأذى، ويؤيد هذا المنزع أن في قراءة عثمان بن عفان وابن مسعود وابن الزبير {يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم}، فهذا وإن كان لم يثبت في المصحف، ففيه إشارة إلى التعرض لما يصيب عقب الأمر والنهي، كما هي في قوله تعالى: {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك} [لقمان: 17] وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} [المائدة: 105] معناه إذا لم يقبل منكم ولم تقدروا على تغيير منكره، وقال بعض العلماء: المعروف التوحيد، و{المنكر} الكفر، والآية نزلت في الجهاد.
قال الفقيه القاضي: ولا محالة أن التوحيد والكفر هما رأس الأمرين، ولكن ما نزل عن قدر التوحيد والكفر، يدخل في الآية ولابد، {المفلحون} الظافرون ببغيتهم، وهذا وعد كريم. اهـ.

.من فوائد الألوسي:

قال رحمه الله:
{وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير} أمرهم سبحانه بتكميل الغير إثر أمرهم بتكميل النفس ليكونوا هادين مهديين على ضد أعدائهم فإن ما قص الله تعالى من حالهم فيما سبق يدل على أنهم ضالون مضلون، والجمهور على إسكأن لام الأمر، وقرئ بكسرها على الأصل، و(تكن) إما من كان التامة فتكون {أُمَّةٍ} فاعلًا وجملة {يَدَّعُونَ} صفته و{مّنكُمْ} متعلق بتكن أو بمحذوف على أن يكون صفة لأمة قدم عليها فصار حالًا. وإما من كان الناقصة فتكون {أُمَّةٍ} اسمها {وَيُدْعَوْنَ} خبرها و{مّنكُمْ} إما حال من أمة أو متعلق بكان الناقصة، والأمة الجماعة التي تؤم أي تقصد لأمر مّا، وتطلق على أتباع الأنبياء لاجتماعهم على مقصد واحد وعلى القدوة؛ ومنه {إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] وعلى الدين والملة، ومنه {بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا} [الزخرف: 22] وعلى الزمان، ومنه {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 54] إلى غير ذلك من معانيها.
والمراد من الدعاء إلى الخير الدعاء إلى ما فيه صلاح ديني أو دنيوي فعطف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه في قوله سبحانه: {وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} من باب عطف الخاص على العام إيذانًا بمزيد فضلهما على سائر الخيرات كذا قيل: وقال ابن المنير: إن هذا ليس من تلك الباب لأنه ذكر بعد العام جميع ما يتناوله إذ الخير المدعو إليه إما فعل مأمور أو ترك منهي لا يعدو واحدًا من هذين حتى يكون تخصيصهما بتميزهما عن بقية المتناولات، فالأولى أن يقال فائدة هذا التخصيص ذكر الدعاء إلى الخير عامًا ثم مفصلًا، وفي تثنية الذكر على وجهين ما لا يخفى من العناية إلا إن ثبت عرف يخص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببعض أنواع الخير وحينئذ يتم ما ذكر، وما أرى هذا العرف ثابتًا انتهى، وله وجه وجيه لأن الدعاء إلى الخير لو فسر بما يشمل أمور الدنيا وإن لم يتعلق بها أمر أو نهي كان أعم من فرض الكفاية ولا يخفى ما فيه، على أنه قد أخرج ابن مردويه عن الباقر رضي الله تعالى عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير} ثم قال: «الخير اتباع القرآن وسنتي» وهذا يدل أن الدعاء إلى الخير لا يشمل الدعاء إلى أمور الدنيا.
ومن الناس من فسر الخير بمعروف خاص وهو الإيمان بالله تعالى وجعل المعروف في الآية ما عداه من الطاعات فحينئذ لا يتأتى ما قاله ابن المنير أيضا، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل أن الخير الإسلام والمعروف طاعة الله والمنكر معصيته، وحذف المفعول الصريح من الأفعال الثلاثة إما للإعلام بظهوره أي يدعون الناس ولو غير مكلفين ويأمرونهم وينهونهم، وإما للقصد إلى إيجاد نفس الفعل على حدّ فلان يعطي أي يفعلون الدعاء والأمر والنهي ويوقعونها، والخطاب قيل متوجه إلى من توجه الخطاب الأول إليه في رأي وهم الأوس والخزرج، وأخرج ابن المنذر عن الضحاك أنه متوجه إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة وهم الرواة، والأكثرون على جعله عامًا ويدخل فيه من ذكر دخولًا أوليًا، ومن هنا قيل: للتبعيض، وقيل: للتبيين وهي تجريدية كما يقال لفلان من أولاده جند وللأمير من غلمانه عسكر يراد بذلك جميع الأولاد والغلمان.
ومنشأ الخلاف في ذلك أن العلماء اتفقوا على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات ولم يخالف في ذلك إلا النزر، ومنهم الشيخ أبو جعفر من الإمامية قالوا: إنها من فروض الأعيان، واختلفوا في أن الواجب على الكفاية هل هو واجب على جميع المكلفين ويسقط عنهم بفعل بعضهم أو هو واجب على البعض؟ ذهب الإمام الرازي وأتباعه إلى الثاني للاكتفاء بحصوله من البعض ولو وجب على الكل لم يكتف بفعل البعض إذ يستبعد سقوط الواجب على المكلف بفعل غيره، وذهب إلى الأول الجمهور وهو ظاهر نص الإمام الشافعي في الأم، واستدلوا على ذلك بإثم الجميع بتركه ولو لم يكن واجبًا عليهم كلهم لما أثموا بالترك. وأجاب الأولون عن هذا بأن إثمهم بالترك لتفويتهم ما قصد حصوله من جهتهم في الجملة لا للوجوب عليهم، واعترض عليه من طرف الجمهور بأن هذا هو الحقيق بالاستبعاد أعني إثم طائفة بترك أخرى فعلًا كلفت به. والجواب عنه بأنه ليس الإسقاط عن غيرهم بفعلهم أولى من تأثيم غيرهم بتركهم يقال فيه: بل هو أولى لأنه قد ثبت نظيره شرعًا من إسقاط ما على زيد بأداء عمرو ولم يثبت تأثيم إنسان بترك آخر فيتم ما قاله الجمهور.
واعترض القول بأن هذا هو الحقيق بالاستبعاد بأنه إنما يتأتى لو ارتبط التكليف في الظاهر بتلك الطائفة الأخرى بعينها وحدها لكنه ليس كذلك بل كلتا الطائفتين متساويتان في احتمال الأمر لهما وتعلقه بهما من غير مزية لإحداهما على الأخرى فليس في التأثيم المذكور تأثيم طائفة بترك أخرى فعلا كلفت به إذ كون الأخرى كلفت به غير معلوم بل كلتا الطائفتين متساويتان في احتمال كل أن تكون مكلفة به فالاستبعاد المذكور ليس في محله على أنه إذا قلنا بما اختاره جماعة من أصحاب المذهب الثاني من أن البعض مبهم آل الحال إلى أن المكلف طائفة لا بعينها فيكون المكلف القدر المشترك بين الطوائف الصادق بكل طائفة فجميع الطوائف مستوية في تعلق الخطاب بها بواسطة تعلقه بالقدر المشترك المستوي فيها فلا إشكال في اسم الجميع ولا يصير النزاع بهذا بين الطائفتين لفظيًا حيث إن الخطاب حينئذ عم الجميع على القولين وكذا الإثم عند الترك لما أن في أحدهما دعوى التعليق بكل واحد بعينه، وفي الآخر دعوى تعلقه بكل بطريق السراية من تعلقه بالمشترك، وثمرة ذلك أن من شك أن غيره هل فعل ذلك الواجب لا يلزمه على القول بالسراية ويلزمه على القول بالابتداء ولا يسقط عنه إلا إذا ظن فعل الغير، ومن هنا يستغنى عن الجواب عما اعترض به من طرف الجمهور فلا يضرنا ما قيل فيه على أنه يقال على ما قيل: ليس الدين نظير ما نحن فيه كليًا لأن دين زيد واجب عليه وحده بحسب الظاهر ولا تعلق له بغيره فلذا صح أن يسقط عنه بأداء غيره ولم يصح أن يأثم غيره بترك أدائه بخلاف ما نحن فيه فإن نسبة الواجب في الظاهر إلى كلتا الطائفتين على السواء فيه فجاز أن يأثم كل طائفة بترك غيرها لتعلق الوجوب بها بحسب الظاهر واستوائها مع غيرها في التعلق.
وأما قولهم: ولم يثبت تأثيم إنسان بأداء آخر فهو لا يطابق البحث إذ ليس المدعي تأثيم أحد بأداء غيره بل تأثيمه بترك فالمطابق ولم يثبت تأثيم إنسان بترك أداء آخر ويتخلص منه حينئذ بأن التعلق في الظاهر مشترك في سائر الطوائف فيتم ما ذهب إليه الإمام الرازي وأتباعه وهو مختار ابن السبكي خلافًا لأبيه، إذا تحقق هذا فاعلم أن القائلين بأن المكلف البعض قالوا: إن من للتبعيض، وأن القائلين بأن المكلف الكل قالوا: إنها للتبيين، وأيدوا ذلك بأن الله تعالى أثبت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكل الأمة في قوله سبحانه: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} [آل عمران: 110] ولا يقتضي ذلك كون الدعاء فرض عين فإن الجهاد من فروض الكفاية بالاجماع مع ثبوته بالخطابات العامة فتأمل.